السبت 20 محرم 1446

فقه الصيام

الطرق التي يعلم بها دخول الشهر
الخميس 26 يناير 2023 2:00 مساءاً
612 مشاهدة
مشاركة

الطرق التي يعلم بها دخول الشهر 

** يعلم دخول الشهر بأحد طريقين:

الأول: رؤية الهلال، والدليل قوله تعالى {فمن شهد من الشهر فليصمه}، وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: (إذا رأيتموه فصوموا) [خ 1900، م 1080] ولا يشترط أن يراه كل أحد، بل إذا رآه من يثبت الشهر بشهادته وجب الصوم على الجميع.

ولا عبرة بالحساب، وقد كان الحساب معروفا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويعرفه أيضا بعض الأمم من الروم وفارس واليونان والهند، بل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) [خ 1913، م 1080] يدل على أن الكتابة معلومة، وأنه ليس بعلم جديد الحدوث، وأن هذه الأمة إنما كلفت بالرؤية لا بالحساب، والعلة في ذلك عدة مصالح:

أولها: أن في هذا تيسيرا على الناس، وذلك أن الرؤية يحسنها كل أحد، في البر والبحر، والبدو والحضر، والشريعة جاءت بالتيسير.

الثاني: أن تعليق الأمر بالرؤية فيه جمع لكلمة المسلمين؛ لأن الرؤية يتفق عليها الناس، فمن رأى أخبر برؤيته، وصام الناس بذلك، أما الحساب فيختلف الناس فيه وفي إدراكه.

وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع على أنه لا عبرة بالحساب في دخول الشهر وانصرامه، فقد حكاه ابن المنذر، وابن عبد البر، والنووي، وابن قدامة وغيرهم.

قال الشيخ الطريفي: "ولا أعلم أحدا من السالفين يقول بالحساب، وإنما يروى هذا عن مطرف بن الشخير، وقد ضعف هذا القول عنه ابن عبد البر في الاستذكار، وجاء أيضا عن ابن قتيبة فإنه كان يقول به، وليس أيضا ممن يحفل بقوله في مسائل الخلاف في حال ورود الإجماع وثبوته، وجاء أيضا هذا القول عن أبي العباس بن سريج وهو من فقهاء الشافعية، وقد أنكره عليه غير واحد من العلماء" [شرح كتاب الصيام من منار السبيل ص9، النوازل في الصيام ص5]

وذكر الشيخ أن الفلكيين يستفاد منهم في النفي لا في الإثبات؛ والنفي على حالين:

الحال الأولى: أن يتفقوا على نفي وجود الهلال في الفضاء، فهذا يؤخذ بقولهم؛ لأنهم يحكون الاستحالة، وهذا مثل ما لو شهد شاهد في منتصف الشهر برؤية هلال الشهر القادم، فإن هذا مستحيل.

الحال الثانية: أن ينفوا الرؤية مع وجود الهلال في الفضاء، بمعنى أن يقولوا هو مولود لكن لا يمكن أن يرى بالعين المجردة، أو هو موجود لكنه لم يولد لاختبائه، فهذا لا يعتد فيه بنفيهم؛ وقد ثبت خطؤهم في عدد من المرات.

الثاني: إتمام شعبان ثلاثين يوما، لأن الشهر لا يمكن أن يكون أكثر من ثلاثين يوما، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) [خ 1909، م 1081]

** يشترط لقبول الشهادة بالرؤية أن يكون الشاهد:

1- مسلما.

2- بالغا.

3- عاقلا.

4- عدلا، بأن يكون موثوقا بخبره لأمانته وبصره وعدم تسرعه.

** ما العدد الذي يثبت به دخول شهر رمضان وخروجه؟ فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أنه يثبت دخول شهر رمضان بشهادة الواحد، ولا يثبت الفطر وسائر الشهور إلا بشهادة اثنين، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة، أما دليل قبول قول الواحد في الصيام فهو ما يأتي:

1- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه) [د 2342، وصححه ابن حزم والنووي، والألباني]

والحديث ضعفه الشيخ الطريفي فقال: "هذا الخبر خبر معلول، قد تفرد به مروان بن محمد يرويه عن عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبي بكر بن نافع عن نافع عن عبد الله بن عمر ولا يصح إسناده، ومروان بن محمد قد تفرد بروايته ولا يحتمل منه هذا التفرد، قد نص على تفرده الدارقطني عليه رحمة الله تعالى في سننه، وكذلك الإمام البيهقي في كتابه السنن، ومروان بن محمد ينفرد ويغرب ولا يحتج بما انفرد به"

وقال الطريفي في الأحاديث المعلة في الصوم: "ومن وجوه الإعلال في الحديث أن هذا الحديث فرد، والتفرد جاء متأخرا، وطبقة مروان بن محمد متأخرة"

2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال نعم، قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا) [د 2340، ت 691، ن 2112، جه 1652، وصححه الحاكم، وصححه النووي في المجموع 6/293، وضعفه النسائي والدارقطني، والألباني والطريفي، وقال الحافظ: "من حديث سِماك عن عكرمة عنه، قال الترمذي: روي مرسلا، وقال النسائي: إنه أولى بالصواب، وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة"، التلخيص الحبير 2/359]

قال الشيخ الطريفي: "سِماك بن حرب في روايته عن عكرمة على ثلاثة أحوال:

أولها: ما يرويه سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد الله بن عباس وينفرد بروايته، فإنه لا يحتمل منه ذلك ومنها هذا الخبر، ولهذا قد أعله عامة الأئمة وقد أعله الإمام أحمد والدارقطني وكذلك ابن المديني وأحمد العجلي وغيرهم.

الحالة الثانية: ما يرويه سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد الله بن عباس، ويرويه قدماء أصحابه كشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وأبي الأحوص، فإن هؤلاء إنما يحملون من حديث سماك بن حرب عن عكرمة أمثل ما يرويه وما ضبطه ولهذا يقبل ما رواه، وهذا الحديث قد خالف سفيان الثوري من رواه عن سماك بن حرب عن عكرمة، فرواه سفيان الثوري عن سماك بن حرب مرسلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أعرابيا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنه قد رأى الهلال، وهذا الأرجح فيه رواية سفيان كما نص على ذلك النسائي والدارقطني.

والحالة الثالثة: ما يرويه سماك بن حرب عن عكرمة عن غير عبد الله بن عباس، وهذا الأصل فيه الصحة ومن ذلك ما رواه النسائي والدارقطني من حديث سماك بن حرب عن عكرمة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها فقال (أعندك طعام فإني أصبحت صائما؟ فقالت:لا، فقال: إني صائم) وهذا حديث قد صححه النسائي والدارقطني وغيرهما."

3- أنه خبر ديني فيكتفى فيه بخبر الواحد، بخلاف الشهادة.

أما دليل اشتراط اثنين في الفطر فهو ما يأتي: 

1- أن الحارث بن حاطب -رضي الله عنه- كان أمير مكة، وخطب الناس فقال: (عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نَنْسُك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما) [د 2338، قط 2/167، وصححه الدارقطني، قال الشيخ الطريفي: "وأعله ابن حزم الأندلسي بالحسين بن الحارث، وقال: إنه مجهول، والصحيح أنه ليس بمجهول بل هو معروف، قال فيه علي بن المديني: معروف، وقد وثقه ابن حبان وابن خلفون وغيرهم من الأئمة"، والحديث صححه الألباني] فاشترط الشاهدين.

والاستدلال بهذا الحديث فيه نظر، لأن الحديث ظاهره أنه في دخول شهر رمضان، لأنه قال: (نسكنا بشهادتهما)، فليس فيه دلالة على اشتراط شاهدين لغير رمضان، وأما دلالته على اشتراط الشاهدين لرمضان فهو من دلالة المفهوم، وحديث ابن عمر منطوق فيكون مقدما عليه.

2- عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثوه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) [حم 18416، ن 2116، وصححه الألباني] 

ومفهومه أنه إن لم يشهد شاهدان فلا تصوموا ولا تفطروا، لكن منطوق حديث ابن عمر وابن عباس يدل على قبول خبر الواحد في الصيام فيقدم على المفهوم هنا، ويبقى مفهوم حديث عبد الرحمن بن زيد يدل على اشتراط اثنين في شهادة الإفطار. 

3- ما رواه شقيق بن سلمة قال: "أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية" [قط 2199، هق 7982، وصححه الحافظ في التلخيص الحبير 2/403] وهو استدلال واضح، حيث كان هذا في دخول شهر شوال، فاشترط له شاهدين.

4- حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة رجل واحد على هلال رمضان، وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين) [هق، وضعفه البيهقي وقال: هذا مما لا ينبغي أن يحتج به، وضعفه الدارقطني].

القول الثاني: أنه لا بد من شهادة اثنين في الصيام والإفطار، وهذا مذهب المالكية، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد السابق، وحديث الحارث بن حاطب، وأجابوا عن حديث ابن عمر بأنه حادثة عين، ويحتمل أن ابن عمر سبقه رجل، فجاء ابن عمر فأكمل النصاب، أي شاهدين، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأنه ضعيف.

القول الثالث: أنه في الصوم يكتفى برؤية الواحد إذا كان في السماء علة، وإلا فلا بد من جمع كبير يقع العلم بخبرهم، أما في الفطر فلا يكتفى إلا برؤية اثنين إذا كان في السماء علة، وإلا فلا بد من جمع كبير يقع العلم بخبرهم، وهذا مذهب الحنفية، واستدلوا بأن تفرد الشخص الواحد من بين الناس ينبيء عن الخطأ، وهذا القول ضعيف.

القول الرابع: أنه يكتفى برؤية الواحد في الصيام والإفطار، وهذا مذهب أبي ثور، واختيار ابن رشد وابن المنذر، وهو مذهب ابن حزم، واستدلوا بما يأتي:

1- أن الخبر برؤية الهلال لا يعدو أن يكون من باب الخبر الديني الذي يقبل فيه قول الواحد، وليس هو من باب الشهادة حتى يشترط فيه التعدد.

2- عموم حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) [خ 1900، م 1080]، وهذا يشمل رؤية الواحد والاثنين.

3- أنه لا فرق بين الشهادة في دخول شهر رمضان، وبين الشهادة في دخول سائر الشهور، فإذا قبلنا شهادة الواحد في دخول شهر رمضان فكذلك في سائر الشهور. 

4- أن الإجماع منعقد على وجوب الإمساك ووجوب الفطر في اليوم الواحد من رمضان بقول واحد، فوجب أن يكون الأمر كذلك في دخول الشهر وخروجه، إذ كلاهما علامة تفصل زمان الفطر من زمان الصوم. [بداية المجتهد 2/148] 

5- أننا إذا صمنا برؤية الواحد، وأكملنا العدة ثلاثين يوما، فإننا نفطر، لأن الشهر لا يكون واحدا وثلاثين يوما، وحينئذ نكون قد أفطرنا بخبر الواحد.

والأقرب والله أعلم هو القول الرابع، أما الأحاديث التي ظاهرها اشتراط الشاهدين، فهي محمولة على الاستحباب، ويكون حديث ابن عمر دالا على قبول خبر الواحد في الصيام، والقياس دالا على قبول خبر الواحد في الإفطار، وحديث عبد الرحمن بن زيد محمول على الاستحباب، والله أعلم.

** وهل تقبل شهادة الأنثى والعبد؟ في هذا المسألة خلاف بين أهل العلم:

القول الأول: أنه لا يثبت الشهر برؤية العبد والمرأة، وهذا مذهب الشافعية، لأن الذي رأى الهلال في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) والمرأة شاهدة وليست شاهد.

القول الثاني: أنه تقبل شهادة العبد والمرأة، وهذا مذهب الحنابلة، واستدلوا بأن هذا خبر ديني يستوي فيه الذكور والإناث، كما استوى الذكور والإناث في الرواية، والرواية خبر ديني، ولهذا لم يشترطوا لرؤية هلال رمضان ثبوت ذلك عند الحاكم ولا لفظ الشهادة، بل قالوا لو سمع شخصا ثقة يحدث الناس في مجلسه بأنه رأى الهلال فإنه يلزمه أن يصوم بخبره، وما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا بدليل، وهذا القول هو الراجح.