الأحد 2 ربيع الآخر 1446
تفسير آية الكرسي
الأحد 05 فبراير 2023 2:00 مساءاً
3462 مشاهدة
مشاركة

الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (255)

قوله {الله} هذه الآية أعظم آية في كتاب الله، فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: (قال رسول الله يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، فضرب في صدري، وقال: والله ليَهْنِك العلم أبا المنذر) [م 810]

والحديث فيه دليل على تفاضل آيات الله تعالى، وهو مذهب أكثر العلماء، ويؤيده قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}، وإنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم، لما جمعت من أصول الأسماء والصفات، والألوهية، والواحدانية، ووصف الله تعالى بصفات الحياة العلم والملك والقدرة، وذكر الشفاعة، وعظم خلق الله تعالى.

ومنع أبو الحسن الأشعري والباقلاني وابن جرير الطبري تفاضل الآيات، وقالوا إن تفاضلها عائد إلى أنها أفضل بالنسبة لبعض الناس من حيث الأجر، لا تفاضلها في ذاتها.

والصواب هو القول الأول، فكل القرآن فاضل، لكن قد يزيد بعض آياته فضلا على آيات أخرى، كما تتفاضل آيات الله الكونية، كما قال تعالى {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس}، وقال تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}، وكما تتفاضل آياته الشرعية في مثل فضل القرآن على التوراة، والإنجيل، فإن الكل كلام الله، لكن القرآن أفضله. 

فالآيات قد تتفاوت، فيتضمن بعضها من المعاني العظيمة ما يكون أفضل من غيرها من حيث المعنى، فكلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مما يخبر به عن بعض خلقه، وذلك لشرف الأول على الثاني. [ينظر مجموع الفتاوى 17/78]

ومن فضائل الآية حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: إني محتاج وعلى عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود.

فذكر الحديث وفي آخره: قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ... فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما إنه قد صدقك وهو كذوب) [علقه البخاري برقم 5010، وعلقه بطوله في كتاب الوكالة باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه]

وقد أشار الله تعالى إلى هذا في الآية في قوله {ولا يؤوده حفظهما}، فإذا كان الله لا يثقله حفظ السماوات والأرض، فإنه لا يثقله حفظ عبده المؤمن.

ومن فضائل الآية حديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- مرفوعا: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) [ن الكبرى 9848، طس 8068، وقال قال السيوطي: صحيح على شرط البخاري، اللآلئ المصنوعة 1/230، وصححه الألباني]

قوله {الله} هذه الآية فيها عشر جمل، عطفت على بعضها بدون واوا العطف لترابط هذه الجمل، ولأنها كلها دالة على عظمة الله تعالى وكمال صفاته.

قوله {الله} اسم من أسماء الله تعالى، بل قال بعضهم إنه الاسم الأعظم، لأنه أكثر الأسماء ترددا في القرآن والسنة، ولأنه الاسم الذي يأتي متبوعا لا تابعا، فيقال: الله الملك، الله الخالق، ولا يقال: الخالق الله، وكذلك يقال: الرحمن والرحيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن. [المهذب من مدارج السالكين ص32]

واختلف العلماء هل هذا الاسم مشتق أم لا؟ فذهب سيبويه إلى أنه مشتق من (الإله)، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، كما حذفت الهمزة من (الناس) ومن (شر) ومن (خير)، وأصلها الأناس، وأشر، وأخير، وذهب ابن العربي والرازي إلى أنه ليس مشتقا، وقال شيخنا: في كون أصلها الإله نظر لأنه يخبر فيقال هو الله الإله، فكيف يكونان مثل بعض.

وقال ابن القيم: "ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى" [بدائع الفوائد 2/249]

ومعنى الاسم: الذي تألهه القلوب، أي تحن له، وتشتاق للقائه، وتعظمه وتعبده.

قوله {الله} في توحيد الأسماء والصفات وضع العلماء عدة قواعد، منها: 

أولا: أن مذهب السلف أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- مع إثبات كمال الضد، وما لم يرد إثباته ولا نفيه نتوقف في لفظه ونستفصل في معناه، إلا لو كان صفة نقص فإننا ننفيه عن الله لأنه لا احتمال هنا، ولا مجال للاستفصال.

ثانيا: العقل لا مدخل له في تفاصيل باب الأسماء والصفات، وإدخاله باطل لوجوه: منها أنه خلاف مذهب السلف، ومنها أنه خلاف العقل الصريح؛ لأن العقل الصريح مقتضاه أن يتوقف فيما لا يدركه، ولا يعرفه، ويرجع فيه إلى النقل والخبر الصحيح، وأيضا فإن الرجوع إلى العقل مستلزم للتناقض والاضطراب، فما يثبته عقل واحد، قد ينفيه الآخر، والعكس.

ثالثا: أسس الأسماء والصفات ثلاثة: 

1- الإيمان بما وصف به نفسه جل وعلا أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

2- تنزيه الله تعالى عن المماثلة.

3- قطع الطمع عن إدراك كيفية صفات الله عز وجل.

رابعا: أن أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) 

وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن أحدا حصره ولا الإحاطة به، وفي حديث الشفاعة: (فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن، يلهمنيه الله) [م 193]

أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة)، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما، من أحصاها دخل الجنة، أو نحو ذلك.

بل معنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة. وعلى هذا فيكون قوله: (من أحصاها دخل الجنة) جملة مكملة لما قبلها وليست مستقلة. 

ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة.

ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي في تعيينها ضعيف، وفيه ما ليس من أسماء الله كالمغني والمانع والضار والنافع والبديع والرشيد والباقي والمحصي.

قوله {لا إله إلا هو} هذه جملة التوحيد، ومعناها نفي الألوهية عما سوى الله، والمراد نفي كونه إلها حقا، وإلا فقد أثبت الله تعالى الألوهية لغيرة، لكنها ألوهية باطلة، كما قال تعالى {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به}، وقوله {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء}، وقوله {أإفكا آلهة دون الله تريدون}، وقوله {واتخذوا من دون آلهة ليكونوا لهم عزا}

ولهذا فإن معنى "لا إله إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله.

قوله {لا إله إلا هو} جاء في فضل "لا إله إلا الله" أحاديث، منها: 

1- عن أنس -رضي الله عنه- مرفوعا: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير) [خ 44، م 193]

2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه) [خ]

3- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) [خ 99]

4- عن أبي ذر -رضي الله عنه- مرفوعا: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وإن رغم أنف أبي ذر) [خ 5827، م 94]

5- عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا: (إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال إني قاصر عليكما الوصية، آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين، أنهاكما عن الشرك والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله، فإن السموات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان، ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح، ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليها لفصمتها أو لقصمتها، وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء) [حم 7061، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني]

قوله {لا إله إلا هو} "لا إله إلا الله" بمفهومها الشامل تعني الإيمان، فهي التي تعصم دم صاحبها، ويستحق بها وصف الإسلام، وتنجيه من النار بإذن الرحمن، وعندما نتكلم عن شروط الله إلا الله، فمعناه أننا نتكلم عن الشروط التي تكون بها (لا إله إلا الله) فاعلة، أي عاصمة لدم صاحبها في الدنيا، ومنجية له في الآخرة.

فهذه الكلمة، وإن كانت هي مفتاح الجنة إلا أن المفتاح لا يعمل إلا بالأسنان، ولهذا قال ابن القيم في النونية: 

هذا وفتح الباب ليس بممكن                      إلا بمفتاح على أسنان

مفتاحه بشهادة الإخلاص والتــ                       وحيد تلك شهادة الإيمان

أسنانه الأعمال وهي شرائع الـ                          إسلام   والمفتاح بالأسنان

لا تلغين هذا المثال فكم به                        من حل إشكال لذي العرفان

وإذا كانت مباني الإيمان هي القول والعمل والاعتقاد، فكذلك مباني لا إله إلا الله، وعلى هذا يمكن أن نقول بإيجاز إن شروط لا إله إلا الله هي القول والعمل والاعتقاد، فيشترط النطق بالشهادتين، والاعتقاد الجازم بهما، والعمل بصدق بمقتضاهما، فإذا مات العبد على ذلك تحققت له النجاة بإذن الله تعالى.

وهذه الشروط يتفاوت الناس في بعضها زيادة ونقصا، لأنها من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، وتفصيل ذلك في مذكرة العقيدة.

قوله {الحي القيوم} هذان اسمان من أسمائه تعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في {الحي}، وكمال الأفعال في {القيوم}.

وهذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله: (الحي)

والسلطاني في قوله: (القيوم)، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء.

راجع مذكرة الفوائد فيما يتعلق باسم الله الأعظم.

قوله {الحي القيوم} في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) [ت 3524]

وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) [م 2577]

قوله {الحي} هو ذو الحياة الكاملة، ويدل على ذلك (أل) المفيدة للاستغراق؛ وكمال حياته تعالى ثابته له من حيث الوجود والعدم؛ ومن حيث الكمال والنقص، فحياته من حيث الوجود والعدم؛ أزلية أبدية، ومن حيث الكمال والنقص كاملة من جميع أوصاف الكمال.

والحي اسم أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، كما قال تعالى {يخرج الحي من الميت}، وقال تعالى {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى.

فحياة الإنسان ناقصة؛ لأنها سبقت بعدم، ويلحقها فناء، ولهذا كانت حياة أهل الجنة كاملة؛ لأنه لا يلحقها فناء، وإذا اعتبر الإنسان بذلك علم أن هذه الحياة الدنيا ليست حقيقية، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولهذا لما خطبت ابنة سعيد بن المسيب للوليد بن عبد الملك ابن الخليفة، جاء السفير يقول لسعيد: جاءتك الدنيا بحذافيرها، فقال سعيد: إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فماذا ترى يقص لي من هذا الجناح؟! وأبى أن يزوجها لابن الخليفة، وزوجها لأحد طلبته.

فإن قيل: كيف تكون حياة أهل الجنة لا يلحقها فناء! وحياة الله تعالى لا يلحقها فناء؟

فالجواب: أن بقاء الله تعالى صفة ذاتية، وبقاء أهل الجنة إنما هو بإبقاء الله لهم.

قوله {الحي} جعل الله تعالى هذا الاسم عماد التوكل عليه، كما قال تعالى {وتوكل على الحي الذي لا يموت}، فكأنه يقول: إن الذي يصح التوكل عليه هو صاحب الحياة الكاملة، أما الذي يهلك فلا تتوكل عليه، لأنك إن اتكلت على إنسان مثلك -حتى وإن كان ذا قوة- فقد تنقلب قوته ضعفا، وقد يمن عليك ويذلك، وقد تصيبه كارثة فيموت.

ولهذا كان في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون) [خ 7383، م 2717 واللفظ له]

قوله {القيوم} أصلها من القيام، ووزن{قيوم} فيعول، لأن أصله (قيْوُوم) فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ولا يجوز أن يكون على وزن (فعّول) وإلا لكان قووما. [روح المعاني 2/9]

قوله {القيوم} صيغة مبالغة من قائم، كما تقول غفور فهي مبالغة من غافر، ولاسم القيوم معنيان: 

المعنى الأول: أنه القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه.

المعنى الثاني: أنه القائم على غيره فكل أحد محتاج إليه، ولا يقوم أحد إلا به، كما قال تعالى {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت}، والمقابل محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله، وكما قال تعالى {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره}، وقال تعالى {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}

قوله {القيوم} لا أحد يمكنه القيام بنفسه إلا هو سبحانه، والكل محتاج له، ولهذا يُذكر عن سمنون المحب أنه كان يقول:

وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني

فحصر بوله، فكان يدور على المكاتب ويفرِّق الجوز على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذّاب، وفي رواية أنه قال: يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه علي، فاحتُبس بوله أربعة عشر يوما، فكان يتلوى كما تتلوى الحية على الرمل، فلما أطلق بوله قال: يا رب تبت إليك.       

وانظر إلى قصة موسى عليه السلام، كيف رباه فرعون في قصره، وهو نبي، والأمر كما قال القائل: 

إذا لم يكن عون من الله للفتى            فقد خاب من يرجو وخاب المؤمّل

فموسى الذي رباه جبريل كافر         وموسى الذي رباه فرعون مرسل

وكيف أمر الله أمه أن تلقيه في اليم {أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم}، وكان إلقاؤه في اليم نجاة له، بل قال لها {فإذا خفت عليه فألقيه في اليم}، مع أن المفترض أنها إذا خافت عليه ألا تلقيه في اليم!

قوله {القيوم} قيام الله على عباده يظهر في كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد جاء في فضل هذه الكلمة حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: (لما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم، وأنا خلف دابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسمعني وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال لي: يا عبد الله بن قيس! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) [خ 4205، م 2704]

قوله {القيوم} لولا الله عز وجل ما كان الوجود، ولا كانت الأشياء، فكل شيء قائم بالله عز وجل.

وقيام الشيء بالله عز وجل يشمل ثلاثة أشياء: الإيجاد، والإمداد، والإعداد.

أولا: الإيجاد، فلولا الله عز وجل ما وجدت الأشياء، فهو الذي أوجد الأشياء عز وجل بقدرته وبحكمته، وهذه الأشياء الموجودة منها ما معلوم لنا، ومنها ما هو غير معلوم، فنحن لا نعلم ألا ما أعلمنا الله تعالى منها، ومع ذلك فما لم يعلمنا الله به أكثر مما أعلمنا عنه، قال الله تعالى {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض} فهناك مخلوقات من قبل لا ندري عنها؛ لان الله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال فعال، والفاعل والفعل لابد أن ينتج عن مفعول، فإذا قلنا إن من صفاته الأزلية أنه فعال، لزم من ذلك أن يكون هناك مفعول، فكل الأشياء كائنة بالله تعالى.

ثانيا: الإمداد فالله تعالى هو الذي أمدها حتى تبقى، أرأيت النبات ينبت في الأرض، فإذا منع الله المطر فني النبات، وإذا أنزل الله المطر بقي النبات وزاد! إذا فإمداد هذه الموجودات بما يبقيها وينميها من عند الله عز وجل.

ثالثا: الإعداد، ويعني تهيئتها لما هي صالحة له، فالإبل مثلا للركوب، قال تعالى {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} فالله أعدها وجعلها صالحة لما خلقت له، من حيث القوة والشكل واحدوداب الظهر حتى تقوى على التحمل، وإيجاد الشحم الكثير على ظهرها لئلا يرهقها الحمل، أو تنكسر العظام، أو يخل بها، إلى غير ذلك من الأشياء التي تكون مهيأة للشيء الذي أعدت له.

قوله {لا تأخذ سنة ولا نوم} السنة هي النعاس، والنوم معروف، وهذه من الصفات المنفية، وقد نفاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: (قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يُخفِض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) [م 179]

فقوله (لا ينبغي) يعني يستحيل ويمتنع غاية الامتناع، كما قال تعالى {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا}، وقال تعالى {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر}، وقال تعالى {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون}

وقوله (يخفض القسط) أي الميزان، وسمي قسطا لأن القسط هو العدل، وبالميزان يقع العدل، والمقصود أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة، وهذا تمثيل لما يقدر تنزيله، فشبه بوزن الميزان، وقيل: المراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسعه.

وقوله (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل) يعني يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده.

وقوله (سبحات وجهه) يعني نوره وجلاله وبهاؤه، وقوله (لأحرقت) هذا مثل ما حصل لموسى فيه قوله تعالى {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}

والإيمان بالصفات المنفية يتضمن أمرين:

الأول: الإيمان بانتفاء الصفة المذكورة.

الثاني: إثبات كمال ضدها.

وهنا النفي حصل بقوله تعالى {لا تأخذه سنة ولا نوم} ليدل على كمال حياته، وقيوميته.

ولا بد عند النفي من إثبات كمال الضد، لما يأتي:

1- أن الله تعالى قال {ولله المثل الأعلى} أي الوصف الأعلى والأكمل وهذا معدوم في النفي المحض.

2- أن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء لا يكون مدحا وكمالا.

3- أن النفي إن لم يتضمن كمالا فقد يكون لعدم قابلية المحل لذلك المنفي لا لكمال الموصوف.

4- أن النفي إن لم يتضمن كمالا فقد يكون لنقص الموصوف وعجزه.

قوله {ولا نوم} النوم صفة نقص في حق الخالق، ولهذا لما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار.

أما النوم بالنسبة للإنسان في الدنيا فهو صفة كمال، ولهذا إذا لم ينم الإنسان عد مريضا، كما أنه إذا لم يأكل عد مريضا، وهذه يوضح أن ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالا للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالا في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق، والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه {وهو يطعم ولا يطعم}.

قوله {ولا نوم} جاء موقوفا عن عكرمة قال: "إن موسى عليه السلام قال له قومه: أينام ربنا؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن خذ قارورتين واملأهما ماء، ففعل، فنعس فنام فسقطتا من يده فانكسرتا، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: إني أمسك السماوات والأرض أن تزولا ولو نمت لزالتا" [هق 78، المطالب العالية 3018، وقال ابن الجوزي: "ولا يثبت هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغلط من رفعه، والظاهر أن عكرمة رأى هذا في كتب اليهود فرواه"، العلل المتناهية 1/27]

قوله {له ما في السماوات وما في الأرض} في الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و{السماوات} جمعت؛ و{الأرض} أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لأن المراد بها الجنس.

والسماء لغة: كل ما علا الإنسان فهو سماء، فسقف البيت سماء لمن هو تحته لأنه عال عليه، والمراد بها في الآية السماء المعروفة، وجمعت لأنها سبع سماوات، بينما أفرد الله الأرض، وهي دائما تأتي في كتاب الله تعالى مفردة، ولكنها ليست واحدة، إنما هي سبعة أيضا، والدليل على أن الأرض سبع أرضين قوله تعالى {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن} والمثلية هنا: تحتمل المثلية في الصفة، وتحتمل المثلية في العدد، وطالما أن المثلية في الصفة غير متحققة كما نرى، فلم يبق إلا المثلية في العدد، وهذا ظاهر في حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه- مرفوعا: (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) [خ 3198، م 1619]

قوله {له ما في السماوات وما في الأرض} في الآية دليل على أن كل شيء مملوك لله تعالى، وأن البشر وإن ملكوا إلا أن ملكهم قاصر قدرا، وقاصر شرعا.

وفيه إشارة إلى أن الواجب على العبد أن يسأل ربه، فهو المالك الحقيقي، وهو المالك الذي لا يبخل على عباده، بل يعطي بلا حساب، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحَّاءُ -كثير العطاء- الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده -وفي رواية: يمينه-، وقال: عرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع) [خ 7411، م 993]

وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- الطويل مرفوعا عن رب العزة جل وعلا أنه قال: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) [م 2577]

قوله {من ذا} ذا ملغاة إعرابا، ويأتي بها العرب في مثل هذا لتحسين الفظ، وهي هنا بمعنى (هذا) يعني من هذا الذي، لأن اسم الإشارة (هذا) أصله (ذا) والهاء للتنبيه.

وقد تأتي (ذا) كما في أحد القولين في قوله تعالى {وماذا عليهم لو آمنوا بالله} يعني وما الذي عليهم. [لسان العرب 15/450، إعراب القرآن للنحاس 1/215]

قوله {يشفع عنده} الشفاعة هي: التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة، ولقبول الشفاعة ثلاثة شروط، ذكرها الله تعالى في قوله {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}، أي: يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم، فالشروط ثلاثة:

الشرط الأول: إذن الله للشافع، ويدل لذلك قوله تعالى {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقوله {ما من شفيع إلا من بعد إذنه}.

الشرط الثاني: رضا الله عن الشافع، والدليل قوله تعالى {يومئذ لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا}.

الشرط الثالث: رضا الله عن المشفوع له، ويدل لذلك قوله تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} ويستثنى من الشرط الثالث الشفاعة العظمى لأن المشفوع لهم منهم المؤمن ومنهم الكافر، ويستثنى أيضا منه شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمه أبي طالب.

راجع تفاصيل أنواع الشفاعة يوم القيامة في مذكرة العقيدة.

قوله {إلا بإذنه} المراد به الإذن الكوني، والإذن يأتي بمعنيين:

المعنى الأول: الإذن الشرعي، وهو متعلق بما يحبه الله، والمأذون به شرعا قد يقع، وقد لا يقع، فمثاله قوله تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} لأنه قد أذن به قدرا، لكنه لم يأذن شرعا، وقوله {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}، وقوله {في بيوت أذن الله أن ترفع} وهذه الآية تشمل الإذن الكوني والشرعي، أما الشرعي فواضح، وأما الكوني فإنه الواقع يؤيده.

المعنى الثاني: الإذن الكوني، وهو متعلق بما يحبه الله وبما لا يحبه، والمأذون فيه واقع لا محالة، فمثاله قوله تعالى {تنزل الملائكة والروح فيه بإذن ربهم}، وقوله في السحر {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}، وقوله {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله}، وقوله {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.

قوله {يعلم} العلم هو إدراك الأشياء يكون على أوجه، أو الحكم بنسبة المحمول إلى الموضوع يكون على أوجه: 

1- العلم: وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما. [انظر المسائل المشتركة 35]

2 - الجهل البسيط: وهو عدم الإدراك بالكلية.

3 - الجهل مركب: وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.

4 – الظن: وهو إدراك الشيء مع احتمال نقيضه احتمالا مرجوحا.

5 – الوهم: وهو إدراك الشيء مع احتمال نقيضه احتمالا راجحا.

6 – الشك: وهو إدراك الشيء مع احتمال نقيضه احتمالا مساويا.

وإن شئت فقال إن العلم هو قضية مجزوم بها وواقعة وعليها دليل كقولك: الله واحد، فإن كانت القضية مجزوم بها وواقعة لكن لا تستطيع التدليل عليها فهو التقليد كقول الصبي: الله واحد، وإن كانت القضية مجزوم بها وغير واقعة فهو الجهل المركب، وإن كانت القضية غير مجزوم بها مع استواء الجزم وعدمه فهو الشك، وإن كانت القضية غير مجزوم بها مع ترجح الجزم فهو الظن، وضده الوهم.

قوله {يعلم} علم الله تعالى شامل لما يكون من أفعاله أو أفعال عباده، فهو شامل لكل شيء أزلا وأبدا، ولهذا يقول النبيون يوم القيامة عندما يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم؟ {قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب}، ويقول سبحانه لعيسى ابن مريم: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} 

والملائكة وهم من خلقه {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}؛ لأنهم يجهلون، ولا علم لهم إلا ما علمهم سبحانه. 

والله سبحانه وتعالى يوصف بأنه عالم، ولا يوصف بأنه عارف، لأن المعرفة مسبوقة بجهل، ولا يشكل على هذا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)؟ لأن المعرفة هنا بمعنى العناية، أي: يعتني بك؛ لأنها لو كانت المعرفة هنا بمعنى العلم لكان الله يعلمه، سواء تعرف إليه أم لم يتعرف.

والإنسان متصف بالعلم، لكن بين علم الخالق والمخلوق البون الشاسع، فمن الفروق: 

الفرق الأول: أن علم الله -تعالى- غير مسبوق بجهل، بل هو عليم منذ الأزل، وعلم المخلوق مسبوق بجهل، كما قال تعالى {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا}

الفرق الثاني: أن الله لا يلحقه نسيان، كما قال الله تعالى {لا تأخذه سنة ولا نوم}، وقال تعالى: {وما كان ربك نسيا}، ولما جادل فرعون موسى في القرون الأولى: {قال فما بال القرون الأولى}، قال موسى: {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}، أما المخلوق فهو ينسى ما كان يعلمه، فأشياء كثيرة يتعلمها ويحفظها فإذا دخل مرحلة الشيخوخة، نسى معظمها، كما قال تعالى {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}

الفرق الثالث: أن علم الله واسع، ولهذا قال سبحانه: {وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون}، وقال تعالى في شأن شعيب -عليه السلام- لما آذاه قومه وأرادوا منه أن يعود في ملتهم ودينهم قال: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}، وقال تعالى: {وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}.

أما علم المخلوق فمحدود، فالطبيب إذا علم شيئا عن بدن الإنسان، جهل أشياء أخرى، والأمر كما قال تعالى {وفوق كل ذي علم عليم}

الفرق الرابع: أن علم المخلوقات عن الشيء الواحد يتفاوت، فقد يكون هذا الإنسان نبيا، ويجهل بعض الأشياء، كما في قصة نبي الله سليمان -عليه السلام- مع الهدهد، {وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله}، فماذا قال نبي الله سليمان؟ {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا}، فسليمان نبي من عند الله -عز وجل-، ومع هذا يجهل أمر سبأ، وما هم فيه، ويأتيه بخبر القوم الهدهد، طائر صغير.

بل قد تعلم الحيوانات والدواب عن يوم القيامة وأنه في يوم الجمعة، وتخاف منه، وكثير من الإنس والجن لا يعلمون هذا، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (ما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين الإنس والجن) [حم 9582، وصححه ابن القيم، وكذلك الألباني والأرنؤوط]

وانظر إلى علم الدواب والحيوانات بما يجري في القبور من العذاب على أهلها، فعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: (بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- في حائط لبني النجار على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبرٌ ستةٌ أو خمسةٌ، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ قال رجل: أنا، قال: فمتى ماتوا؟ قال: في الشرك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال) [م 2867]، والشاهد أن البغلة حادت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكادت أن تلقيه لسماعها لعذاب هؤلاء المشركين، والصحابة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم لا يشعرون ولا يعلمون.

قوله {يعلم} مفاتح الغيب خمس، وهي قوله تعالى {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت}، وليس هي كل الغيب، بل هي مفاتح الغيب يعني أصولها، كما قال تعالى {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}.

وسميت مفاتح لأن كل واحد منها فاتحة لشيء بعده، فالساعة فاتحة للآخرة التي هي النهاية، والغيث فاتحة لحياة النبات، وما في الأرحام فاتحة لحياة كل شيء، {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} فاتحة للمستقبل، {وما تدري نفس بأي أرض تموت} فاتحة لقيامة كل إنسان بحسبه، وهي فاتحة انتقاله من الحياة الدنيا للآخرة. 

ومن عجيب قوله تعالى {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} أن الإنسان كان يحصي أشياء كثيرة منذ القدم، ولهذا لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- المشرك عن عدد الكفار في بدر قال هم كثير، فقال له: (كم ينحرون من الجُزر؟ قال عشرا كل يوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- القوم ألف، كل جزور لمائة).

ومع تقدم العلم ودخول الآلة والحاسبات العملاقة، كانت غاية تصور الإنسان أن يحصي عدد السكان إحصاء دقيقا، وعدد الأغنام، ومنسوب المياه، وعدد السيارات، والطرق ونحو ذلك. 

ولم يخطر ببال الإنسان في يوم ما أن يحصي عدد الورق المتساقط، ولا عدد حبات البر والبحر، وكأن الإنسان يعلم أن هذا لا يمكنه إحصاؤه، ولا سبيل لذلك إلا من الخالق جل وعلا، فالعقل البشري معترف بقصور نفسه، وأنه لا يمكنه تخطي حدوده. 

فقوله {عنده علم الساعة} وهو يوم القيامة، وقدم الخبر (عنده) ليفيد الاختصاص، فمن ادعى علم الساعة فهو كاذب وكافر، ومن صدقه أيضا فهو كافر؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله عز وجل، حتى قال الله لرسوله: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها}، وقال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فجبريل وهو أشرف الملائكة وأعلمهم، يسأل محمدا -صلى الله عليه وسلم- أشرف البشر وأعلمهم عن الساعة، فيقول له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).

فإن قيل: ما تقولون في قوله تعالى في سورة طه: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} حيث إن ظاهرها أنه لم يخفها، فالجواب من وجهين:

الأول: أن كثيرا من المفسرين، أو أكثرهم قال: معنى الآية أكاد أخفيها على نفسي، وهو من المبالغة في الإخفاء، كقوله -صلى الله عليه وسلم- في المتصدق يخفي صدقته: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

الثاني: أن يقال إن الإخفاء ثلاثة أنواع: إخفاء ذكر، وإخفاء قرب، وإخفاء وقوع.

فأما إخفاء الذكر فهو: أن لا يذكر الله الساعة للخلق، ولا يبين لهم شيئا من أحوالها، وهذا محال، تأباه حكمة الرب جل وعلا، ويكذبه الواقع، فإن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة، فالعلم به من ضروريات الإيمان؛ ولهذا لم يخف الله- تعالى- ذكر الساعة، بل أعلم عباده بها، وبين من أحوالها وأهوالها، وما يشفي ويكفي فيما أوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والسنة.

وأما إخفاء القرب فهو أن لا يذكر الله -تعالى- للخلق شيئا من علاماتها الدالة على قربها، وهي أشراطها، ولكن رحمة الرب الواسعة اقتضت أن يبين للخلق قرب قيامها بما يظهره من العلامات الدالة عليه ليزدادوا بذلك إيمانا، ويستعدوا لها بالعمل الصالح المبني على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم.

وأما إخفاء الوقوع فهو أن لا يذكر الله للخلق وقتا محدودا تقوم فيه الساعة، وهذا هو ما دل عليه الكتاب والسنة فليس في الكتاب والسنة تحديد لوقت قيام الساعة، بل فيهما النص الصريح الذي لا يحتمل التأويل بأن علم ذلك موكول إلى الله تعالى لا يعلم به ملك مقرب، ولا نبي مرسل.

وقوله {وينزل الغيث} ويشكل على كثير من الناس، فيظن أن هذه التوقعات -التي تذاع في الإذاعات- يظن أنها تعارض قول الله تعالى {وعنده مفاتح الغيب} والحقيقة أنها لا تعارض ذلك، لأن علمهم بهذا علم مستند إلى محسوس لا إلى غيب، وهذا المحسوس هو أن الله عز وجل حكيم، كل شيء يقع له سبب، فالأشياء مربوطة بأسبابها، فقد تكون الأسباب معلومة لكل أحد، وقد تكون معلومة لبعض الناس، وقد تكون غير معلومة لأحد، فإننا لا نعلم سبب كل شيء وحكمة كل شيء، المطر إذا أراد الله عز وجل إنزاله، فإن الجو يتغير تغيرا خاصا، يتكون معه السحاب، ثم نزول المطر، فهؤلاء عندهم مراصد دقيقة، تلامس الجو، ويعرف بها تكيف الجو، فيقولون إنه سيكون مطر، ولهذا نجدهم لا يتجاوز علمهم أكثر من ثلاثة أيام أو نحو ذلك، فعلمهم محدود، لأنه مبني على أسباب حسية لا تدرك إلا بواسطة هذه الآلات، ونحن مثلا بحسنا القاصر إذا رأينا السماء ملبدة بالغيوم، ورأينا هذا السحاب يرعد ويبرق، فإننا نتوقع أن يكون ذلك مطرا، هم كذلك يتوقعون إذا رأوا في الجو تكيفا معينا يصلح معه أن يكون المطر وحينئذ لا معارضة بين الآية وبين الواقع، على أنهم أيضا يتوقعون توقعا فربما يخطئون وربما يصيبون.

وقوله {ويعلم ما في الأرحام} لا يعارض هذا معرفة الأطباء جنس الجنين بعد نفخ الروح فيه لأمرين: 

الأول: أن الله تعالى يعلم ما في الأرحام ليس فقط من جهة الذكورة والأنوثة، بل من جهات أخرى كثيرة لا يعلمها البشر، مثل: هل يخرج حيا أو ميتا، وهل يبقى في الدنيا طويلا أو قصيرا، وهل يكون غنيا أو فقيرا، وهل يكون شقيا أو سعيدا.

الثاني: أن علم البشر بالذكورة والأنوثة من الغيب النسبي، لأن الغيب نوعان: غيب مطلق وهو ما لا يعلمه إلا الله، وغيب نسبي وهو ما يعلمه البعض دون البعض الآخر، فما غاب عن البعض سمي غيبا نسبيا، والذكورة والأنوثة يعلمها الملك قبل نفخ الروح، فإذا علمها البشر بعد ذلك كان من الغيب النسبي لا المطلق، ولهذا جاء في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعا: (وكل الله بالرحم ملكا، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه) [خ 6595، م 2646]

وقوله {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} (نفس) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، وتكسب يشمل أي كسب، فهو لا يعلم كسبه من حسنات أو من سيئات، ولا يعلم كسبه من أموال ومن أعمال، وقد يعد الإنسان نفسه بأنه في الغد سيفعل كذا وكذا، ولا يأتي عليه الغد إلا وقد مات، وقد يأتي عليه وهو حي لكنه لا يفعل شيئا من هذه الأشياء.

حتى الذين يخططون لترك أموال لأولادهم، فإنهم لا يحمونهم من الغيب المقدر لهم، ولهذا قال المنصور لعمرو بن عبيد: عظني، قال: بما رأيت أو بما سمعت؟ قال: بل عظني بما رأيت. 

فقال له: مات عمر بن عبد العزيز فخلف أحد عشر ابنا، وبلغت تركته سبعة عشر دينارا، كفن منها بخمسة دنانير واشترى موضعا لقبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهما. 

ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابنا، وأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار، فرأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله، ورأيت رجلا من ولد هشام يسأل ليتصدق عليه. [التذكرة الحمدونية 9/225، نثر الدر في المحاضرات 7/68، مجموع الفتاوى 28/249]

وقوله {وما تدري نفس بأي أرض تموت} وهذا عام في كل الأنفس حتى الحيوانات، وإذا كانت كل نفس لا تدري بأي أرض تموت، فهي لا تدري في أي يوم تموت من باب أولى؛ لأن جهالة الزمن أشد من جهالة المكان؛ لأن المكان يمكن للإنسان أن ينتقل، أو يبقى في أرض لا يبرحها، لكن الزمن يمشي بلا إرادة من الإنسان. 

وقد جاء في حديث أبي عزة يسار الهذلي -رضي الله عنه- مرفوعا: (إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة) [حم 15111، ت 2147، وصححه الألباني]

ومن حكمة الله تعالى أن جعل موعد الوفاة مجهولا، فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصيرا لم يهنأ بالعيش، وكيف يهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت.

وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول إذا قرب الوقت أحدث توبة.

وجهل الإنسان بموعد وفاته يجعله يقظا مستعدا، كما جاء عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: (كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا) [جه 4195، وحسنه النووي، وحسنه الألباني]

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على قبر دفن حديثا، فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون، يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) [طس 920، وحسنه المنذري، وحسنه الألباني]

قوله {ما بين أيديهم} أي المستقبل، و{ما} من صيغ العموم، فهي شاملة لكل شيء مما مضى.

وفي الآية رد على القدرية الغلاة، الذي ينفون علم الله تعالى بأفعال خلقة إلا إذا وقعت.

قوله {وما خلفهم} أي الماضي، وقيل بالعكس.

قوله {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أكثر الذي يتكلمون في السلوك يشيرون إلى أن الإيمان بعلم الله تعالى يورث العبد كمال المراقبة لله عز وجل، وكما خشيته في السر والعلن، وهذا صحيح.

لكن هناك أمر آخر، وهو أن إيمان العبد بأن الله يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلى يعلمها، يورث العبد الثقة بالله عز وجل، وهذا مرتبة عظيمة من مراتب الإيمان وكمال الاستعانة بالله عز وجل.

وانظر إلى كمال الثقة بالله في قوله تعالى {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني}، فما فعلته هو عين ثقتها بالله تعالى، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء، تتلاعب به أمواجه إلى حيث ينتهي أو يقف، وهي لا تدري.

وانظر إلى قصة موسى عليه السلام، كيف رباه فرعون في قصره، فأصبح نبيا، والأمر كما قال القائل: 

إذا لم يكن عون من الله للفتى            فقد خاب من يرجو وخاب المؤمّل

فموسى الذي رباه جبريل كافر         وموسى الذي رباه فرعون مرسل

والثقة بالله هي تلك التي أنطق الله بها موسى عليه السلام يوم جاء فرعون من ورائه والبحر من أمامه {قال أصحاب موسى إنا لمدركون}، فقال الواثق بالله عز وجل، الواثق بنصره الماضي على منهج ربه {كلا إن معي ربي سيهدين}، مع أن منطق العقل يقضي بأن ما قاله قوم موسى صحيح، وأن قول موسى {كلا} غير صحيح.

ومثله لما قال أبو بكر في الغار: (والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما ظنك باثنين الله ثالثهما) [خ 4663، م 2381]

ومثله ما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْك الغِماد -موضع بين مكة واليمن-، لقيه ابن الدَّغِنَةِ -وهو سيد القارَة، وهي قبيلة مشهورة-، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.

فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تكسِب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله، ولا يُخرج! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق.

فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره.

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقَصَّف -يعني يزدحم- عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجَبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.

فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله" [خ 2298]

قوله {ولا يحيطون بشيء من علمه} الضمير في الهاء في قوله {علمه} يجوز أن يرجع إلى الله، ويجوز أن يرجع إلى {ما بين أيديهم وما خلفهم}، أي ولا يحيطون بشيء من علم ذلك إلا بما شاء.

فعلى الأول يكون المصدر مضافا إلى الفاعل، وعلى الثاني يكون المصدر مضافا إلى المفعول، وبناء على ذلك فالآية لها معنيان:

المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما شاء أن يعلمهم، كما قال تعالى {ولا يحيطون به علما}، وقال تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.

المعنى الثاني: لا يحيطون بشيء من معلومه -أي مما يعلمه في السماوات والأرض- إلا بما شاء أن يعلمهم. [الصواعق المرسلة 4/1372]

والمصدر قد يضاف إلى الفاعل بلا احتمال، وقد يضاف إلى المفعول بلا احتمال، وقد يحتملهما.

قوله {وسع} أي شمل وأحاط.

قوله {كرسيه} اختلف العلماء في الكرسي على أقوال: 

القول الأول: أن الكرسي هو موضع قدمي الله عز وجل، وهو بين يدي العرش كالمقدمة له، وقد ثبت هذا عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهم- 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الكرسي موضع القدمين -وفي رواية: قدميه-، والعرش لا يعلم قدره إلا الله" [رواه ابن خزيمة في التوحيد 1/248، رقم: 154، وابن أبي شيبة في العرش 61، والدارمي في الرد على المريسي، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 586، والحاكم في المستدرك 3116، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في مختصر العلو ص102، وأحمد شاكر في عمدة التفسير 2/ 163]، ومثله له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه.

وقال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل" [رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة 1/302 برقم 588، وابن أبي شيبة في العرش 60، وابن جرير في تفسيره 4/538، والبيهقي في الأسماء والصفات 859، وصححه الحافظ في فتح الباري 8/199، والألباني في مختصر العلو ص123-124]

وما قيل من أن ابن عباس -رضي الله عنهما- يأخذ عن بني إسرائيل فلا صحة له، بل صح عنه أنه كان ينهى عن ذلك، فقد قال -رضي الله عنهما-: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدث، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم" [خ 7363]

القول الثاني: أن الكرسي هو العرش، وهذا ليس بصحيح، بل العرش أعظم وأوسع، ولهذا جاء في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- الطويل مرفوعا: (ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) [حب 361، وقال ابن رجب: "في إسناده إبراهيم بن هشام تكلم فيه أبو زرعة وغيره، وقد روي من وجوه متعددة عن أبي ذر وكلها لا تخلو من مقال"، فتح الباري لابن رجب 2/462، وقال الذهبي إنه منكر، العلو 1/115، وقال ابن تيمية عن الحديث إنه مشهور له طرق، مجموع الفتاوى 6/556، وللحديث طرق ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة (109)، وقال: "وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح"].

القول الثالث: أن الكرسي هو العلم، وهذا مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا لا يصح عنه، ولا يعرف في اللغة أن الكرسي يأتي بمعنى العلم، وحديث أبي ذر السابق واضح في أن الكرسي ليس هو العلم، بل هو مخلوق من مخلوقات الله العظيمة.

والقول الأول هو الصحيح، وقد جاء في صفحة الكرسي أثر ابن مسعود -رضي الله عنه- موقوفا عليه: "بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمسمائة سنة، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" [العلو للذهبي 175، وحسنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى 3/139، وصححه الذهبي]، ومثله لا يقال بالرأي فله حكم الرفع.

أما العرش فهو أعظم المخلوقات، وأوسعها، كما قال تعالى {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش العظيم}، وقال تعالى {وهو رب العرش العظيم}، وقال تعالى {ذو العرش المجيد}، و{المجيد} فيها قراءتان، الرفع -وهي قراءة الأكثرين- على أنه صفة للرب عز وجل، والجر -وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر- على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح، والمجيد بمعنى المتسع عظيم القدر.

وقد جاء في صفة العرش حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا: (الناس يُصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) [خ 3217]

وقال تعالى عن حملة العرش {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم}.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا: (أُذِن لي أن أحدِّث عن ملَك من ملائكة الله من حملة العرش، إنَّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) [د 4727، قال الحافظ: "إسناده على شرط الصحيح"، فتح الباري 8/665]

وقد حرف بعض المبتدعة العرش، وأولوه على أنه الملك، وهو تأويل باطل يرده قوله تعالى {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}، وقوله {وكان عرشه على الماء}، ويرده حديث أبي سعيد وجابر -رضي الله عنهما- السابقين. [راجع مبحث العرش والكرسي في ملف العقيدة]

قوله {ولا يؤوده} هي من آد، والآد تعني القوة، فإذا قلت آد يؤود، يعني قوي عليه وأثقله، وإذا قلت آد يئيد يعني قوي هو، مثل قوله {والسماء بنيناها بأيد} يعني بقوة. [جمهرة اللغة 2/1087]

وهذا من الصفات المنفية التي نفاها الله تعالى لكمال قوته، وكمال علمه وقدرته.

قوله {حفظهما} أي حفظ السماوات والأرض، وأشار إليهما فقط لأنهما هما المرئيان لنا، وحفظ الله تعالى للسماوات يشمل أمورا: 

الأول: حفظهما من الزوال، كما قال تعالى {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}، وقال تعالى {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره}، لكن هذا الحفظ مؤقت، كما قال تعالى {يوم نطوي السماء كطيء السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده}، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض) [خ 6519، م 2787]

الثاني: حفظهما من الجن أن يستقروا السمع، وقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رجل الصحابة قال: (بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال: الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرِفون فيه -يزيدون فيه الكذب- ويزيدون) [م 2229]

وحديث ابن عباس يدل على أنه كانت الجن ترمى بالشهب حتى قبل البعثة، لكن زاد الأمر بعد البعثة حتى صاروا لا يقدرون على استراق السمع، ولهذا قال تعالى {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشبها}، فقوله {ملئت} دليل على أن الشهب كانت موجودة. 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء) [خ 4800]

وظاهر الأدلة أن الجن لم يكونوا قادرين على استراق السمع في فترة البعثة، واستمر الأمر بعد البعثة، وإن كانوا يقدرون على اختطاف القليل، ولهذا قال تعالى {وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون}، وقال تعالى {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب}

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب؟ فلما رأوا أنه بالشهب علموا أنه لأمر حدث، وأرسلت الجن تطلب سبب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلموا أنه كان لأجل ذلك. وهذا من أعلام النبوة ودلائلها" [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/353]

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (سأل أناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكهان! فقال لهم: ليسوا بشيء، قالوا يا رسول الله: فإنهم يحدثون أحيانا الشيء يكون حقا، فقال: تلك الكلمة من الجن، يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة) [خ 7561، م 2228]

وهذا يدل على أن الشياطين قد يستمعون ويسترقون السمع الآن، خاصة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وانقطاع الوحي؛ لعدم خشية التباس الوحي بغيره.

وحفظ الله الأرض يشمل أمورا: 

الأول: حفظها من الزوال كما سبق.

الثاني: حفظها لتصلح للعيش عليها، كما قال تعالى {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون}

الثالث: حفظ من فيهما من الملائكة والبشر، فإذا كان الله قد حفظ السماوات والأرض فما هي إلا محل لإقامة المخلوقات، فهو حافظ لها أيضا. 

قوله {وهو العلي} (عليّ) على وزن فعيل، وهي صفة مشبهة، لأن علوه لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف. 

وفي الآية إثبات علو الله تعالى، وعلوه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه سبحانه نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة.

وخالف في هذا طائفتان:

الأولى: قالوا: إنه نفسه في كل مكان في السماء، والأرض؛ وهؤلاء حلولية الجهمية، ومن وافقهم، وقولهم باطل بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة.

الطائفة الثانية: قالوا: إنه لا يوصف بعلو، ولا غيره؛ فهو ليس فوق العالم، ولا تحته، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا متصل، ولا منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لأنه يؤول إلى القول بالعدم المحض.

القسم الثاني: علو الصفة والقدر: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال. قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة}، وقوله تعالى {ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز}

ولا يبلغ عبد أن يقدر الله حق قدره، ولهذا جاء في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا: (ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك راكع أو ملك ساجد، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك) [طب 1749، وقال الحافظ ابن حجر "رجاله لا بأس بهم"، تحفة النبلاء 82]

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- مرفوعا: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) [ت 2312، وحسنه الألباني]

ولهذا كان في دعاء سيد الاستغفار كما في حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- مرفوعا: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) [خ 6303]، قفوله (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) دليل على أنه لا يمكن للعبد أن يبلغ أن يقدر أو يعبد الله حق عبادته.

ولتقدير العبد لربه جل وعلا علامات وأمارات، منها: 

أولا: ألا يستبشر ولا يفرح بالحديث عن أحد، كفرحه واستبشاره وانشراح صدره بالحديث عن رب العالمين؛ لأن ذلك المؤمن ليس في قلبه أحد أعظم من الله، فلا يمكن أن يطمئن قلبه، وينشرح صدره، وتفرح ذاته إلا إذا كان يتحدث عن الله، كما قال تعالى {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، وقال تعالى {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه}، وقال تعالى {وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى}

وكل شيء تخاف منه فإنك تفر منه، إلا الله عز وجل، فإنك تفر منه إليه سبحانه وتعالى. 

وعلى النقيض من ذلك أهل الفجور والكفر والفسوق، فإنهم لا يجدون فرحا ولا استبشارا إذا حدثوا عن الله، قال الله تعالى عنهم: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون}، وقال تعالى {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} 

ثانيا: تعظيم حق الله تعالى، وتقديم حقه على كل أحد.

وقد فقه أنبياء الله ورسله هذه المسألة، فكانوا يدعون أقوامهم ومن أرسلوا إليهم يدعونهم إلى تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، كما فعل نوح عليه الصلاة والسلام لما قال لقومه: {ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا} كل ذلك ليلفت انتباههم إلى تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، وذكر ماله من عظمة وملكوت سبحانه تبارك وتعالى وبحمده.

بل أبلغ من هذا تعظيم الله حتى في كلام الإنسان، وقد ثبت عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه-: (أن رجلا خطب عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوي) [م 870]

ثالثا: ألا يرى الإنسان في نفسه فضلا، أو له حقا على ربه، بل يرى في نفسه النقص على الدوام، قال الشاعر:

          إذا كان شكري نعمة الله نعمة      علي له في مثلها يجب الشكـر 

          فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله      وإن طالت الأيام واتصل العمر 

قال وهب: تعبد رجل زمانا، ثم بدت له إلى الله حاجة فصام سبعين سبتا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يعطها، فرجع إلى نفسه فقال: منك أُتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك. فنزل إليه عند ذلك ملك، فقال: يا ابن آدم؛ ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت، وقد قضى الله حاجتك.

قال أبو عمرو الشيباني: "قال موسى -عليه السلام- يوم الطور: يا رب! إن أنا صليت فمن قِبلِك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن بلغت رسالاتك فمن قبلك، فكيف أشكرك؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني."

رابعا: تعظيم من عظمه الله، ومحبة من يحبه الله، ومعاداة من يعادي الله، حتى لو كان أقرب الناس إليك، ولهذا أخبر الله تعالى أن إبراهيم تبرأ من أبيه، كما في قوله {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}، وتبرأ نوح من ابنه، كما قال تعالى {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم}.

خامسا: تمام الرضا عن الله، في قضائه الكوني والشرعي، قال تعالى في الرضا عن حكم الله الشرعي {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، وهذه الآية تدل على أن الرضا بحكم الله على درجات: 

الدرجة الأولى: تحكيم شرع الله، فلا يصح إيمان عبد حتى يحكم شرع الله في كل صغير وكبير، وأصل التحكيم: الإقرار بأن ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الحاكم على كل ما سواه، فمن حكم شرع الله فقد حقق درجة الإسلام، وحقق المرتبة الأولى من مراتب الرضا، وهي الرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا، لكن لا يزال في الدرجة الأولى، وحاله كحال الأعراب الذين قال الله تعالى فيهم: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.

الدرجة الثانية: انتفاء الحرج، والحرج هو: التردد، والريبة، والشك فيكون في النفس منازعة، وممانعة -وإن كانت خفية-، فمن انتفى في قلبه كل حرج فقد حقق الدرجة الثانية وهي الإيمان.

الدرجة الثالثة: التسليم، وهي أفضل المراتب وأعلاها، فهي درجة التسليم الكامل، والانقياد المطلق، بحيث لا توجد أدنى منازعة، ولا معارضة، بل بالعكس فهنا يكون الاندفاع، والرغبة، والتصديق المطلق، والمحبة لكل ما جاء به محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وأخبر عنه، فيكون حاله كحال أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لما قال: "إن كان قال فقد صدق"، فهذا هو مقام الإحسان.

أما الرضا عن حكم الله الكوني، فمن صوره يعقوب عليه السلام حين فقد ابنيه، وكان قوله {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}

واجتمع مالك بن دينار، ومحمد بن واسع، فقال مالك: "إني لأغبط رجلا معه دينه، له قوام من عيش راض عن ربه عز وجل، فقال محمد بن واسع: إني لأغبط رجلا معه دينه، ليس معه شيء من الدنيا راض عن ربه"، فانصرف القوم وهم يرون أن محمدا أقوى الرجلين.

وقال يحيى بن معاذ: "إذا كنت لا ترضى عن الله، كيف تسأله الرضا عنك"

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- مرفوعا: (قال الله عز وجل يا عيسى إني باعث من بعدك أمة، إذا أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإذا أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف يكون هذا لهم ولا حلم ولا علم؟ قال أعطيهم من حلمي وعلمي) [حم 26997، وحسنه الحافظ ابن حجر في الأمالي المطلقة 49، وحسنه البزار، وضعفه الألباني]

ولهذا ثبت عن أن رجلا سأل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: "ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك" [م 2979]

سادسا: الشوق إلى لقاء الله جل وعلا، كما ثبت في حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقلت يا نبي الله: أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، فقال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه) [م 157]

وقال الإمام أحمد: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، فإذا لقي العبد الصادق ربه استراح.

قوله {العظيم} صفة مشبهة أيضا، ومعناها ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء، والله تعالى قد وصف نفسه بأنه عظيم، ووصف كتابه بأنه عظيم، كما قال تعالى {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم}، ووصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض البشر بأنه عظيم، كما في خطابه لهرقل، حيث قال له: (من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم) [خ 7، م 1773]، لكن من المعلوم أن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في الحقيقة. 

والله تعالى عظيم في ذاته، وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: (قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يُخفِض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) [م 179]

وهو تعالى عظيم في مخلوقاته، فهذه السماء والأرض والكواكب التي نراها، لا شك أنها أعظم من خلق الإنسان، كما قال تعالى {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، وقال تعالى {أأنتم أشد خلقا أم السماء}

ولهذا دعانا الله تعالى إلى التفكر في هذا الملكوت العظيم، وقد جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لما كان ليلة من الليالي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك، فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر ؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إن في خلق السماوات والأرض} الآية كلها) [حب 620]

ومن تعظيم الله تعالى، تعظيم شرعه ودينه، كما قال تعالى {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه}، وقال تعالى {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}

ومن خصائص اسم الله العظيم أنه ذكر الله به يزيل الكرب، كما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) [خ 6346، م 2730]